الدعاء أهميته شروطه موانعه يعتبر الدعاء أحد أهم الوسائل التي يرتبط بها العبد بخالقه تبارك وتعإلى، فهو خشوع وخضوع وتضرع وتوسل ورجاء، ومائدة روحية يجتمع حولها الأنبياء والصالحون، حيث تسمو النفوس المؤمنة إلى مقام القرب من الله، وتعرج الروح إلى رحاب النور، ومن خلاله يصل الإنسان إلى أبواب الله المفتوحة لعباده الصالحين، وتختصر المسافات، وتتساقط الحجب. أهمية الدعاء لما يتضمّنه الدعاء من أهمية قصوى نجد أنّ الآيات الكريمة والروايات الشريفة قد أكّدت عليه كثيراً، حيث قال تعإلى: Pوَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَO[1]. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الآية المباركة قد جاءت في سياق الحديث عن الصوم، ممّا يعطي للدعاء أهمية خاصة في شهر رمضان المبارك، يقول الشيخ الطبرسي u في تفسير مجمع البيان: " لمّا ذكر سبحانه الصوم عقّبه بذكر الدعاء ومكانه منه، وإجابته إياه "[2]. وممّا يؤيد هذا المعنى المتقدّم ما جاء في خطبة النبي الأكرم 9 التي استقبل بها شهر رمضان المبارك، والتي رواها الإمام أمير المؤمنين A، حيث قال: " لمّا حضر شهر رمضان قام رسول الله صلى الله عليه وآله، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها النّاس كفاكم الله عدوكم من الجن والانس، وقال: P ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ O ووعدكم الإجابة، ألا وقد وكّل الله عزّ وجلّ بكل شيطان مريد سبعين من ملائكته، فليس بمحلول حتّى ينقضي شهركم هذا، ألا وأبواب السماء مفتّحة من أول ليلة منه، ألا والدعاء فيه مقبول "[3]. ويذكر[4] في سبب نزول هذه الآية المباركة أنّ رجلاً سأل النبي 9: أقريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت هذه الآية؛ لتبين أنّ الله قريب وليس ببعيد، بل وكما جاء في آية أخرى: P وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ O[5]. ومن الآيات التي وردت في الحثّ على الدعاء قوله تعإلى: P وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ O[6]، وقوله: P قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [7]O، وغيرها. وإلى جانب الآيات الكريمة هناك الروايات الشريفة الواردة عن الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام D، فقد أكّدوا سلام الله عليهم على أهمية الدعاء، فعن النبي 9 أنّه قال: " الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض "[8]. وعنه 9ً: " ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم ؟ قالوا: بلى. قال: تدعون ربكم بلليل والنهار ، فان سلاح المومن الدعاء "[9]. وعنه 9: " الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد "[10]. وعنه 9: " ما من شيء أكرم على الله تعإلى من الدعاء"[11]. وما أروع ما جاء في وصية الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب A لإبنه الحسن المجتبى A: " وأعلم أنّ الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك وهو رحيم كريم، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة ولم يعيرك بالانابة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يفضحك حيث تعرّضت للفضيحة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، ولم يشدّد عليك في التوبة، فجعل توبتك التورّع عن الذنب، وحسب سيئتك واحدة وحسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب والاستعتاب، فمتى شئت سمع نداءك ونجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته[12] ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستعنته على أُمورك، ثمّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه، فألحح عليه في المسألة يفتح لك أبواب الرحمة، لا يقنطك إن أبطأت عليك الإجابة؛ فإنّ العطية على قدر المسألة، وربما أُخرت عنك الإجابة؛ ليكون أطول للمسألة، وأجزل للعطية، ربما سألت الشيء فلم تؤتاه واوتيت خيراً منه عاجلا أو آجلا أو صرت إلى ما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته وفيه هلاك دينك ودنياك لو اوتيته، ولتكن مسألتك فيما يعنيك ممّا يبقى لك جماله وينفى عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقى له، فإنّه يوشك أن ترى عاقبة أمرك حسنا أو سيئا أو يعفو العفو الكريم "[13] . وعنه A: " الدعاء مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة "[14]. وعنه A: " أحبُّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ في الأرض الدعاءُ "[15]. وعنه A: " الدعاء تُرس المؤمن "[16]. وعن حنان بن سدير، عن أبيه، قال: " قلت للباقر A: أيّ العبادة أفضل ؟ فقال: ما من شيء أحب إلى الله من أن يسأل ويطلب ما عنده، وما أحد أبغض إلى الله عزّ وجلّ ممّن يستكبر عن عبادته، ولا يسأل ما عنده "[17]. وعن الصادق A: " من لم يسأل الله من فضله افتقر"[18]. وورد عن الإمام جعفر الصادق A أنّه قال لميسر بن عبد العزيز: " اُدع ولا تقل: إنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تُنال إلاّ بمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئاً، فسل تعط، يا ميسر إنّه ليس من باب يُقرع إلاّ يوشك أن يُفتح لصاحبه "[19] وعنه A: " الدعاء أنفذ من السنان الحديد "[20]. وكان الإمام الرضا A يقول لأصحابه: " عليكم بسلاح الأنبيا. فقيل: وما سلاح الأنبياء ؟ قال: الدعاء "[21]. الحثّ على الدعاء في كل حاجة لقد أكّدت الآيات والروايات المتقدّمة ـ هذا بالإضافة إلى غيرها الكثير جداً، والتي لا يسع المجال لذكرها ـ على مسألة الدعاء، وعلى مطلوبيته، بل والذي يتبيّن من كثير من الروايات الحثّ على الدعاء في كل حاجة، لا أن يقتصر الدعاء على مهام الأُمور، فعلى الإنسان المؤمن أن يدعو الله حتّى في المسائل الصغيرة التي يمكن أن تتحقّق بسهولة، فإذا أراد أيٌّ منّا الذهاب إلى السوق ـ مثلاً ـ فعليه بالدعاء في أن يوصله الله سالماً، وأن يشتري ما يريد، وإذا أراد شرب الماء فليدعو الله في ذلك، وهكذا إذا أراد إرتداء ثيابه، أو الذهاب إلى محلّ عمله، أو الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، ففي كل حاجة من حوائجه الدنيوية والأُخروية عليه أن يدعو الله تعإلى في ذلك؛ إذ لا يخفى أن أي عمل يريد الإنسان القيام به إذا لم ييسّره الله سبحانه لا يمكن أن يتحقّق، مهما صغر ذلك العمل واعتقد الإنسان أنّه يمكنه القيام به. وإليك بعض هذه الروايات التي تدلّ على هذا المعنى المتقدّم. ففي الحديث القدسي: " يا موسى سلّني كلّ ما تحتاج إليه، حتى عَلَفَ شاتك، وملح عجينك "[22]. وعن رسول الله 9: " سلوا الله عزّ وجلّ ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل[23]، فإنّه إن لم ييسِّره لم يتيسّر "[24]. وعن الإمام الباقر A: " لا تُحقِّروا صغيراً من حوائجكم؛ فإنّ أحبَّ المؤمنين إلى الله تعإلى أسألُهُم "[25]. الدعاء يردّ البلاء والقضاء المُبرَم يستطيع المرء أن يعرف ما يتميّز به الدعاء من خلال معرفته أنه يردّ القضاء ولو أُبرم إبراماً، ويدفع أنواع البلاء، فلو كُتِبَ على العبد ـ مثلاً ـ أن يموت في وقت معين، أو أن يبتلي ببلاء ما، أو أن يُصاب بمصيبة معينة، واتفق أنّ العبد قد دعاء الله تعإلى، فالله سبحانه برحمته يطيل عمره، أو يرفع عنه ذلك البلاء أو تلك المصيبة. وهناك جملة من الروايات الشريفة التي تدلّ على ذلك، منها: ورد عن الرسول الأعظم 9: " لا يردّ القضاء إلاّ الدعاء "[26] وعنه 9: " وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء "[27] وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب C: " ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء، ما المبتلى الذى قد اشتدّ به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذى لا يأمن البلاء "[28]. وعن علي بن الحسين C: " إنّ الدعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة، إنّ الدعاء ليردّ البلاء وقد اُبرم إبراماً "[29]. وعن أبي الحسن A قال: كان علي بن الحسين C يقول: " الدعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل "[30]. وقال الإمام الصادق A: " إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم بعدما أُبرم إبراماً، فأكثروا من الدعاء، فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كل حاجة، ولا يُنال ما عند الله إلاّ بالدعاء، إنّه ليس من باب يكثر قرعه إلاّ ويوشك أن يُفتح لصاحبه "[31]. وعنه A قال: " إنّ الدعاء يردّ القضاء وقد نزل من السماء وقد اُبرم إبراماً "[32]. وعن عمر بن يزيد قال: " سمعت أبا الحسن A يقول: إنّ الدعاء يردّ ما قد قدّر وما لم يقدّر، قلت: وما قد قدّر عرفته، فما لم يقدّر ؟ قال: حتى لا يكون "[33]. وعن ابي الحسن موسى الكاظم A: " عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء لله، والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقُضي ولم يبق إلاّ إمضاؤه، فإذا دعي الله عزّ وجلّ وسُئل صرفَ البلاءِ صرفه "[34] إجابة الدعاء من رحمة الله تبارك وتعإلى بنا أنّه كتب على نفسه إجابة دعاء المؤمنين ـ إذا تحقّق منهم الدعاء حقيقةً، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً ـ وقضاء حوائجهم، صغيرها وكبيرها، الدنيوية منها والأُخروية، وكلٌ منّا قد جرّب ذلك بنفسه، فكم من حاجة قد قضاها، وكم من مصيبة قد وقانا الله تعإلى شرها، وكم من كرب كشفه، وكم وكم إلى أن ينقطع النفس، كل ذلك ببركة الدعاء، كيف لا وهو القائل: Pادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْO[35]، كيف لا وهو القائل: Pوَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَO[36]. ولا يخفى على الإنسان المسلم أنّ الله سبحانه وتعإلى لا يلتبس عليه أصوات الداعين وإن كانوا بالمليارات، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق A: " إنّ داود لمّا وقف بعرفات نظر إلى النّاس وكثرتهم، فصعد الجبل وأقبل يدعو، فلمّا قضى نسكه أتاه جبرائيل فقال له: يا داود يقول لك ربك: لِمَ صعدت الجبل ؟ ظننت أنّه يخفى عليّ صوت من صوت ؟ ثمّ مضى به إلى جدّة، فرسب به في البحر مسيرة أربعين صباحاً في البر، فإذا صخرة فلقها، فإذا فيها دودة، فقال له: يا داود يقول لك ربك: أنا أسمع صوت هذه الدودة في بطن الصخرة في قعر هذا البحر، فظننت أنّه يخفى عليّ صوت من صوت ؟ "[37]. قصص إستجابة الدعاء لقد ملئت قصص إستجابة الدعاء بطون الكتب ـ هذا طبعاً بالإضافة إلى القصص التي عاشها كلٌ منّا في حياته اليومية ـ ولا بأس أن نذكر بعضاً منها، فمن القصص نأخذ الدروس، ونستلهم العبر. قصة (1) كتب الوليد بن عبد الملك إلى صالح بن عبد الله المري، عامله على المدينة: أبرز الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ وكان محبوساً في حبسه ـ واضربه في مسجد رسول الله 9 خمسمائة سوط، فأخرجه صالح إلى المسجد، واجتمع النّاس، وصعد صالح المنبر يقرأ عليهم الكتاب، ثمّ ينزل فيأمر بضرب الحسن، فبينما هو يقرأ الكتاب إذ دخل علي بن الحسين A، فأفرج النّاس عنه، حتى انتهى إلى الحسن، فقال له: يا ابن عم ادع الله بدعاء الكرب يفرج عنك، فقال: ما هو يا ابن عم ؟ فقال: قل وذكر الدعاء، قال: وانصرف علي بن الحسين A، وأقبل الحسن يكررها، فلمّا فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل قال: أرى سجية رجل مظلوم، أخِّروا أمره، وأنا اراجع أمير المؤمنين فيه، وكتب صالح إلى الوليد في ذلك، فكتب إليه: أطلقه[38]. قصة (2) روي عن ابن عباس أنّه قال: كان رجل على عهد عمر، وله فلاء بناحية أذربايجان، قد استصعبت عليه، فمنعت جانبها، فشكا إليه ما قد ناله. قال: اذهب فاستغث بالله، وكتب له رقعة فيها: من عمر إلى مردة الجن والشياطين أن يذللوا له هذه المواشى. قال: فأخذ الرجل الرقعة ومضى، واغتممت له غماً شديداً، فلقيت أمير المؤمنين (علي بن ابي طالب) A فأخبرته به. فقال ليعودن بالخيبة، فهدأ ما بى، وطالت علي سنتي، فإذا أنا بالرجل قد وافى وفي جبهته شجّة تكاد اليد تدخل فيها، فلمّا رأيته بادرت فقلت: ما وراءك ؟ فقال: إنّى صرت إلى الموضع، ورميت بالرقعة، فحمل عداد منها فرمحنى أحدها في وجهى، فسقطت، وكان معي أخ لي فحملني، فلم أزل أتعالج حتى صلحت، فصار إلى عمر فأخبره بما كان، فزبره[39]، وقال له: كذبت لم تذهب بكتابي، فمضيت معه إلى أمير المؤمنين A فتبسم، ثمّ قال: ألم أقل لك ؟ ثمّ أقبل على الرجل: إذا انصرفت فصر إلى الموضع الذى هو فيه، وقل: ( اللهم إنّى أتوجّه اليك بنبيك نبى الرحمة، وأهل بيته الذين أخترتهم على علم على العالمين ( اللهم ) فذلل ( لى ) صعوباتها وحزونتها، وكفّني شرها، فإنّك الكافي المعافي، والغالب القاهر). فانصرف الرجل راجعاً، فلمّا كان من قابل قدم الرجل ومعه جملة من أثمّانها، وكان الرجل يحج كل سنة وقد أنمى الله ماله[40]. قصة (3) عن أبي جعفر A قال: كانت اُمي قاعدة عند جدار، فتصدّع الجدار، وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها: لا وحقّ المصطفى ما أذن الله لك في السقوط، فبقي معلّقاً في الجو حتى جازته، فتصدّق أبي عنها بمائة دينار[41] قصة (4) عن جميل بن دراج قال: كنت عند الصادق A، فدخلت عليه امرأة، فذكرت إنّها تركت ابنها ميتاً. فقال لها: لعلّه لم يمت فاذهبي إلى بيتك، واغتسلي وصلي ركعتين، وادعي الله وقولى: ( يا من وهبه ولم يك لي شيئاً جدّد لي هبته ) ثمّ حرّكيه، ولا تخبرى بذلك أحداً إذا فعلت ذلك. فجاءت فحرّكته فإذ هو قد بكى[42]. قصة (5) وعن محمد بن الفضل قال: كان أبو الحسن A واقفاً بعرفة يدعو، ثمّ طأطأ رأسه حتى كادت جبهته تصب قامة الرجل، ثمّ رفع رأسه، فسُئل عن ذلك ؟ فقال: إنّى كنت أدعو الله على هؤلاء ـ يعنى البرامكة ـ قد فعلوا بأبي ما فعلوا، فاستجاب الله لي اليوم فيهم. قال: فلمّا انصرفنا لم يلبث إلاّ قليلاً حتى تغيّرت أحواله[43]. وهناك الكثير من هذه القصص التي يجد فيها القارئ الاستجابة للدعاء، خصوصاً تلك القصص المرتبطة بحياة الأنبياء والأئمة D. فإذا تأملّنا دعاء الأنبياء والصالحين في القرآن الكريم نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد استجاب كلالدعاء ولم يخذل أحداً من عباده، فما هو السرّ ؟ لنلجأ إلى سورة الأنبياء ونتأملدعاء أنبياء الله D، وكيف استجاب لهم الله سبحانه وتعالى. هذا هوسيدنا نوح A يدعو ربّه أن ينجيه من ظلم قومه، يقول تعالى: Pوَنُوحًا إِذْنَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِالْعَظِيمِO[44] وهنا نلاحظ أنّ الاستجابة تأتي مباشرة بعدالدعاء. ويأتي من بعده سيدنا أيوب A بعد أن أنهكه المرض، فيدعوالله أن يشفيه، يقول تعالى: Pوَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَالضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَابِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْعِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَO[45]. وهنا نجد أن الاستجابةتأتي على الفور فيكشف الله المرض عن أيوب عليه السلام. ثمّ ينتقل الدعاء إلىمرحلة صعبة جداً عندما كان سيدنا يونس في بطن الحوت، فماذا فعل، وكيف دعا الله، وهلاستجاب الله تعالى دعاءه ؟ يقول تعالى: Pوَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًافَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَإِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَالَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَO[46] نعم جاءت الاستجابة لتنقذ سيدنا يونس A من هذا الموقف الصعب وهو في ظلماتمتعددة: ظلام أعماق البحر، وظلام بطن الحوت، وظلام الليل. أمّا سيدنا زكريا فقدكان دعاؤه مختلفاً، فلم يكن يعاني من مرض أو شدة أو ظلم، بل كان يريد ولداً تقرّ بهعينه، فدعا الله: Pوَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًاوَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىوَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ[47]O وقد استجاب الله دعاءه، مع العلمأنّه كان كبير السنّ، ولا ينجب الأطفال، وكانت زوجته أيضاً كبيرة السن، ولكنّ الله سبحانه وتعالىقادر على كلّ شيء. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب A الذي دعى على أنس بن مالك بالبرص حين جحد الشهادة على خبر الغدير فأصابه البرص، ودعى على المغيرة بالعمى لنقل أخباره إلى معوية فعمي، ودعى بردّ الشمس فردّت مرتين، وروى ستون مرة، ودعى على الماء لمّا خاف أهل الكوفة الغرق فجفّ الماء حتى ظهرت الحيتان وكلمته إلاّ الجري والمارماهي والزمار فتعجّب النّاس، وغير ذلك من القصص الواقعية التي حصلت في تاريخ الأنبياء والأئمة D، والتي تنقلها الكتب. لمإذا ندعوا فلا يستجاب لنا ؟ السؤال الذي يطرح: ما هو سرّ هذه الاستجابة السريعةلأنبياء الله D، ونحن ندعو الله في كثير من الأشياء فلا يُستجاب لنا؟ مع أنّ الله جلّ شأنه يقول: Pادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْO[48] ؟ بالتاكيد أنّ استجابة الدعاء غير مختصّة بالمعصومين فقط، نعم دعاؤهم لا يردّ؛ لأنّهم حقّقوا شروطه، ورفعوا الموانع عنه، ولكن سائر النّاس أيضا دعاؤهم مستجاب فيما لو دعوا الله حقيقةً، وحققوا شروطه، ولم ياتوا بالموانع التي تمنع من استجابته. جواب ذلك أنّنا لم نحقّق شروط الاستجابة، أو أنّنا أوجدنا الموانع التي تحول دون الاستجابة. ولعلّ لسائل يسأل ما هذه الشروط، وما تلك الموانع ؟ للإجابة عن هذين السؤالين نذكر بعضاً من تلك الشروط والموانع. شروط استجابة الدعاء أولاً: المعرفة لا بدّ للداعي من معرفة مَن يسأل، وأنّ المسؤول هو ربّ العزّة والجلالة، وهو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، إلى غير ذلك من مقتضيات معرفة الباري عزّ وجلّ. وقد بيّنت الروايات ضرورة معرفة من ندعو، فعن الإمام جعفر الصادق A ـ وقد سأله قوم: ندعو فلا يُستجاب لنا ؟! ـ أنّه قال: " لأنّكم تدعون مَن لا تعرفونه "[49]. ثانياً: العمل بما تقتضيه المعرفة لا شكّ أنّ المعرفة دون العمل بما تقتضيه هذه المعرفة غير كافٍ، فلا بدّ من معرفة وعمل، فلا يتساءل الإنسان عن سبب عدم استجابة دعائه في الوقت الذي لا يأتي بما تقتضيه معرفته بالله سبحانه وتعإلى. وقد بيّن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب A هذا الأمر بما لا مزيد عليه، وذلك لمّا سُئل " عن قول الله تعإلى Pادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْO فما بالنا ندعو فلا يجاب ؟ قال: إنّ قلوبكم خانت بثمّان خصال: أولها: أنّكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئاً. والثانية: أنّكم آمنتم برسوله، ثمّ خالفتم سنته، وأمتم شريعته، فأين ثمّرة إيمانكم ؟ والثالثة: أنّكم قرأتم كتابه المنزل عليكم، فلم تعملوا به، وقلتم سمعنا وأطعنا، ثمّ خالفتم. والرابعة: أنّكم قلتم أنّكم تخافون من النار، وأنتم في كلّ وقت تقدّمون إليها بمعاصيكم فأين خوفكم ؟ والخامسة: أنّكم قلتم أنّكم ترغبون في الجنّة وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها، فأين رغبتكم فيها ؟ والسادسة: أنّكم أكلتم نعمة المولى ولم تشكروا عليها. والسابعة: أنّ الله أمركم بعداوة الشيطان، وقال: Pإِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاًO فعاديتموه بلا قول، وواليتموه بلامخالفة. والثامنة: أنّكم جعلتم عيوب النّاس نصب عيونكم، وعيوبكم وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحقّ باللوم منه. فأيّ دعاء يُستجاب لكم مع هذا، وقد سددتم أبوابه وطرقه ؟ فاتّقوا، الله وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فسيتجيب الله لكم دعاء كم "[50]. ثالثاً: طيب المكسب لقد أكّدت الروايات الشريفة على أنّ أحد شروط استجابة الدعاء المكسب الحلال، وبالتالي يكون المكسب الحرام مانعاً من الاستجابة، فمن الحري بالمؤمن أن يجعل رزقه حلالاً، لا كيف اتفق. واليك بعض الروايات التي دلّت على هذا الشرط. عن رسول الله 9: " إنّ العبد ليرفع يده إلى الله ومطعمه حرام، فكيف يُستجاب له وهذا حاله "[51]. وعنه 9: " أطب كسبك تُستجب دعوتك، فإنّ الرجل يرفع اللُّقمة إلى فيه فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً "[52]. وعن الإمام الصادق A: " إذا أراد أحدكم أن يُستجاب له فليطيب كسبه، وليخرج من مظالم النّاس، وإنّ الله لا يُرفع إليه دعاء عبد وفي بطنه حرام، أو عنده مظلمة لأحـد من خلقه "[53]. رابعاً: حضور القلب ورقّته عند الدعاء من الأُمور التي يمكن أن تُذكر في شرائط الدعاء حضور القلب، فالدعاء ليس مجرد لقلقة لسان، بل لا بدّ للداعي من أن يدعو الله سبحانه وتعإلى بقلبه وبرقّة أيضا، وإليك بعض الروايات التي بيّنت هذا المعنى. عن رسول الله 9: " اعلمو أنّ الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه "[54]. وعنه 9: " اغتنموا الدعاء عند الرقّة؛ فإنّها رحمة "[55]. وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب A: " لا يقبل الله عزّ وجلّ دعاء قلب لاه "[56]. وعن الإمام الصادق A: " إذا دعوت فأقبل بقلبك، وظنّ حاجتك بالباب "[57] وعنه A: " إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب قاس "[58] وعنه A: " إذا رقّ أحدكم فليدع، فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص "[59] وعن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله A يقول: " إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل، فدعا الله أن يرزقه غلاماً، يدعو ثلاث سنين، فلمّا رأى أنّ الله لا يُجيبه، قال: يا ربّ ! أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت منّي فلم لا تجيبني ؟ قال: فأتاه آتٍ في منامه فقال له: إنّك تدعو الله منذ ثلاث سنين بلسان بذي، وقلب عات غير نقي، ونية غير صادقة، فأقلع عن بذائك، وليتّق اللهَ قلبُك، ولتحسن نيتك. قال: ففعل الرجل ذلك، ثمّ دعا الله فوُلِد له غلام "[60] موانع إجابة الدعاء يظهر من الكلام المتقدّم في شروط الاستجابة بعضاً من الموانع التي تحول دون استجابة الدعاء، وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن نذكر بعض الأُمور التي تمنع من الاستجابة. أولاً: الذنب من الأُمور التي تجلب الويلات على فاعلها هي الذنوب؛ إذ تبعد الإنسان عن ساحة رحمة الله سبحانه تعالى، وتقربه من الشيطان، وتدخل مرتكبها ناراً وقودها النّاس والحجارة، وتجعل من دعائه هباءً منثوراً. عن الصادق A: " إنّ العبد يسأل الله تبارك وتعإلى الحاجة من حوائج الدنيا، فيكون من شأن الله قضاؤها إلى أجل قريب، أو وقت بطيء، قال: فيذنب العبد عند ذلك الوقت ذنباً، قال: فيقول للملك الموكّل بحاجته: لا تنجز له حاجته، واحرمه إياها، فإنّه قد تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان مني "[61] ثانياً: الظلم عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب A: " إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى عيسى بن مريم A: قل للملأ من بني إسرائيل: لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأكف نقية، وقل لهم: اعلموا أنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولأحد من خلقي قبله مظلمة "[62]. وعن الصادق A: " يقول الله: وعزتي وجلالي، لا أُجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة، ولأحد من خلقي عنده مظلمة مثلها "[63]. ثالثاً: مناقضة الحكمة عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب A: " إنّ كرم الله تعالى لا ينقض حكمته؛ فلذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة "[64]. رابعاً: ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عن النبي الأكرم 9: " لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملنّ عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم "[65]. هذه الأسباب وغيرها هي التي يمكن أن تحبس دعاء العبد، وتحول دون اجابته، ولكن مع ذلك وإن لم تقض الحاجة إلاّ أنّ الإنسان مثاب على دعائه، فنفس الدعاء وبغض النظر عن الاستجابة وعدم الاستجابة هو بحد ذاته عبادة، بل كما ورد عن النبي 9: " الدعاء مخ العبادة ولا يهلك مع الدعاء احد "[66]. بل قد يدعو الإنسان ولا تقض حاجته، ولكن مع ذلك يدفع الله عزّ وجلّ عنه ما شاء الله من البلاء والمصاب، أو قد يدّخرها له في الآخرة، فعن الرسول الأعظم 9: " لا تعجزوا عن الدعاء ، فانه لم يهلك مع الدعاء أحد وليسأل أحدكم ربه حتّى يسأله شسع نعله إذا انقطع واسألوا الله من فضله فانه يحب أن يسأل . وما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها اثمّ ولا قطيعة رحم الا أعطاه الله تعإلى بها احدى ثلاث : اما أن يعجل له دعوته ، واما أن يدخرها له في الاخرة ، واما أن يكف عنه من الشر مثلها ، قالوا : يا رسول الله اذن نكثر قال : الله أكثر "[67] فآخر ما استطيع قوله: في الدعاء البلسم الشافي، والدواء المعافي للنفوس الضامئة والأرواح العاشقة، التوّاقة للعروج إلى الملكوت الأعلى، فيا من أراد القرب من الله تعإلى والكمال والفوز والسعادة! عليك بالدعاء، فهو مخ العبادة، ويا من هو في بحر الحيرة والقلق! إذا أردت السكون والطمأنينة ؟ فاسع سعيك، وواصل جهدك؛ لتجد مرادك في دعائك لله سبحانه وتعإلى، وستصل لا محالة في النهاية إلى شاطئ السلامة والأمان. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين الشيخ عدي السهلاني [1]ـ البقرة: 186. [2]ـ تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي ج 2 ص 18. [3]ـ من لا يحضره الفقيه 2: 98. [4]ـ راجع تفسير مجمع البيان 2: 18. [5]ـ ق: من الآية 16. [6]ـ غافر: 60. [7]ـ الفرقان: 77. [8]ـ الكافي 2: 468. [9]ـ المصدر نفسه. [10]ـ بحار الأنوار 90: 300. [11]ـ - بحار الأنوار 90: 294. [12]ـ أبث فلانا الخبر : أطلعه عليه. [13]ـ بحار الأنوار 74: 204، 205. [14]ـ الدعوات: 284. [15]ـ الكافي 2: 467، 468. [16]ـ المصدر السابق. [17]ـ بحار الأنوار 90: 294. [18]ـ المصدر السابق. [19]ـ الكافي 2: 466، 467. [20]ـ وسائل الشيعة (الإسلامية) 4: 1094. [21]ـ الكافي 2: 468. [22]ـ عدّة الداعي: 123. [23]ـ " الشسع: أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام " لسان العرب 8: 180. [24]ـ بحار الأنوار 90: 295. [25]ـ مكارم الأخلاق: 317. [26]ـ مكارم الأخلاق : 268. [27]ـ بحار الأنوار 90: 288. [28]
نسألكم الدعاء لأننا بحاجته