اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم والعن عدوهم
كيف يكون الخشوع وطبعا الخشوع لله وحده لاشريك له
الخشوع
قال اللَّه تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.
قد فُسِّرَ الخشوع بمعنى الخضوع الممزوج إمّا بالمحبّة التي توجب انكسار النفس هيبة للمحبوب المتعالي في العظمة، أو بالخوف ممّن له سطوة تُخشى ونقمة تتّقى.
ولهذا ورد في بعض أدعية السحر لشهر رمضان المبارك: (اللَّهمّ إنّي أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذلّ في النار...). فالإيمان يوجب الخشوع بكلا شكليه المشار إليهما، في حين أن النار - أعاذنا اللَّه منها - توجب الخشوع بشكله الثاني.
ولتأثير الآية المذكورة في نفوس بعض الناس بعض الحكايات والقَصَص، وذلك من قبيل حكاية فضيل بن عياض التي تعرّضنا لها في أوائل المدخل لهذا الكتاب، ومن قبيل قِصّة غريبة رُويت في بعض الكتب: من أنّ رجلاً معروفاً من رجال البصرة قال: كنت أمشي في طريق وإذا بصيحة جلبت انتباهي، فعقّبتُها فرأيت رجلاً طريحاً على الأرض مغمىً عليه، فسألت عنه فقالوا لي: هذا رجل من أهل الحال سمع آية من القرآن فوقع مغشيّاً عليه، قلت لهم: وأيّة آية تلك؟ فقالوا: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه... وإذا بالرجل سمع صوتي فانتبه، وأنشد هذه الأبيات الحزينة :
أما آن للهجرانِ أنْ يتصرّما وللغصن غصن البان أنْ يتبسّما
وللعاشقِ الصبِّ الذي ذاب وانحنى ألم يأن أنْ يُبكى عليه ويُرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتاباً حكى نقش الوشيّ المنمنما
ثُمّ قال ثلاث مرّات: مشكل، مشكل، مشكل، فوقع مرّة أُخرى مغشيّاً عليه، فحرّكناه فإذا به قد قضى نحبه.
اقول : إنّ هذه القِصَّة إن لم تكن من نسج بعض المتصوّفة، وكانت قِصّة واقعية، فهي تحكي عن نموّ صاحبها في بعض الجوانب الروحية، ونقصه في بعض الجوانب الأُخرى، وإلّا فليس المفروض بمن ينمو روحيّاً في جانب الخشوع والخضوع، أو الخوف والخشية، أو الشعور بعظمة الربّ تبارك وتعالى، أو ما إلى ذلك، أن يشوش على نفسه الحياة الدنيا، وأن يموت بسبب سماعه للآية المباركة ونحو ذلك من الأُمور ، فلو صدق ذلك فهذا يعني: ضعف نفس في الشخص، وفي تحمّله، وفي حفظه لجانب الاتّزان.
وحتى ما ورد بشأن همّام رحمة اللَّه عليه: من أنّه حينما سَمِعَ من إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام وصف المتّقين صَعِقَ صعقة كانت نفسه فيهالى عدم اكتماله في بعض الجوانب الروحية إلى صفّ دلالته على أنّه كان من أهل الحال، وكان شفّاف الروح ورقيق القلب، كما روي أنّه قال إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام بشأنه:أما واللَّه لقد كنت أخافها عليه، ثُمّ قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها. فقال له قائل: (فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام : ويحك إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه، وسبباً لايتجاوزه. فمهلاً لا تعد لمثلها، فإنّما نفث الشيطان على لسانك).
وهذا الجواب من قِبلِ إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام كان جواباً بقدر فهم السائل، ولو كان هذا السائل يعرف شيئاً يسيراً من حالات إمامنا عليه السلام وأنّه هو البكّاء في المحراب ليلاً هو الضحّاك إن طال الحراب، لما اعترض عليه بهذا الاعتراض؛ لوضوح أنّ ضيق الظرفية وضعف النفس الموجودين لدى همّام ليسا موجودين لدى عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي كان يُغشى عليه في جوف الليل من خشية اللَّه، وكان يمارس حياته الاعتيادية لخدمة الإسلام في وسط النهار، وهو الذي قال في نفس خطبة المتّقين ضمن توصيفه للمتقين: (... ولولا الأجل الذي كتب اللَّه عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب...) ثمّ بعد فترة من الحديث قال: (... وأمّا النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء...).
نعم هكذا يحفظ أهل اللَّه توازنهم بين الليل والنهار.
والفرق بين الإنسان والجماد أنّ الجماد لم يكن قادراً على حمل الأمانة، ولو كان يحمَّل الأمانة لكان يفقد توازنه كما قال اللَّه تعالى: إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها....
وقال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللَّه... ولكن الإنسان هو الذي حمل الأمانة، وعليه أن يعمل على وفق متطلّباتها كاملة. وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
والوصول إلى هكذا مقامات مع حفظ التوازن بحاجة الى رياضة عظيمة ومثابرة كبيرة، ولا ينالها إلّا ذو حظّ عظيم. وذلك بحاجة إلى الصدق والجدّية الكاملين في إرادة تهذيب النفس من ناحية، وإلى الطلب من اللَّه تعالى أن يعيننا على أنفسنا في ذلك من ناحية أُخرى، فإن فعلنا ذلك كلّه حقّاً كنّا مصداقاً للآية الكريمة: والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبلنا وإنّ اللَّه لمع المحسنين.
اللهم اجعلنا واياكم من الخاشعين يارب